29 - 06 - 2024

إبداعات | بالأمسِ كُنت هناك .. قصة قصيرة يكتبها: محمد فيض خالد

إبداعات | بالأمسِ كُنت هناك .. قصة قصيرة يكتبها: محمد فيض خالد

لم أكن لأتصوّر أن تلك الحِيطان الضَّعيفة ستصمد بذاكرتي طويلا ، مازلت أتذكرها ، مُكتنزة ، بطونها مُشبعة بليونةٍ عَطنة ، تَستفزني أسراب النَّمل في سيولٍ حُمٍر تُهرولُ بلا تَوقٍف ،أشدّ ما يَزعجني في الذكرى ، مشهد كلب الجيران الضَّخم، يَملأ نُباحه الشارع في عَنجهيٍة مُفرطة ، يَمرّ من أمامي في تَصلُّبٍ غير مُكترث لوجودي ، يَتّخذ موضعه من الجِدارِ ، يرفعُ رجله ويَبولُ في جرأة ، وكأنَّه يَطّلع على عجزي ، حَاولتُ أكثرَ من مرةٍ معاقبته ، أن اتّخذ حياله ما يوقف وقاحته، تَمرَّست على حَملِ عصا عمي " أحمد " الغليظة، اهمسُ متحمسا :" عندما يمر من أمامي ، سأهشّم رأسه وأكسر ساقه"، لكن العصا تثاقلت في يدي، لا أقوى على حَملها ، ولا حتّى إدامة النّظر في عَينِ المُتبجّح ، اكتفيتُ في تلك الأثناء بشتمهِ ، ونعته بأوصافٍ لا تَليق بشجاعٍ مثله، في مراتٍ تَلعب برأسي الظُّنون، أقولُ في ارتياب :" ماذا لو فهم كلامي؟!" ، لكَّنه كَانَ أكثر رَحمةً ، اكتفى بالتَّبولِ ولم يُعاقبني على سُوءِ نواياي. 

كانت لي غُرفة بالطَابقِ العلوي، فَسيحة ، جيدة التَّهوية، تُداعبها خيوط الشمس وتقتحمها في فضولٍ أذرع القمر، يَتساقط سَقفها الجَريدي في انهزامٍ بفعلِ الزمن ، قَالَ لي والدي ذاتَ مساءٍ :" بناها جَدّك الشيخ خالد وأنا في العاشرة " ، استغربُ أحيانا لكلامِ أمي :" لقد سهرت حَتى الرابعة ، السَّهر يجهدك"، أتساءلُ في حَيرةٍ :" كيَفَ عرفت؟! ، لقد اخبرتها حَشوة السَّقف بالسر ، فقَعقعةِ أعجاز النََّّخيل الخَاوية، وبكاء الجَريد المُتهالك لا يتوقف ، مازلتُ أتذكر الونس المُشعّ من طلاسِة الطَّمي، حين تتَناوبُ أمي على فردها في كلِّ عام، تَطمئنها بهذه الكسوة كي تصمدّ أمام عوادي الزمن ، مُقابل حصيري الذي أرقد عليه ، اقتطعتُ صَفحةً كاملة لَمجلةٍ رياضيةٍ شهيرة ، يَطيرُ " حسام حسن " في الهواء كاَلصَّقرِ في حراسةٍ مُشددَّة للاعبي الخِصم ، وكُتِب في الأعلى بخطٍ سميك :" عفوا الأهلي فوق الجميع ". 

لا يزال صوت أمي الحَاني يتَهادى وهي تُغلِقُ الَّنافذة المُنبعجة في الجدرانِ :" برد الصَّيف أحدّ من السيف" ، بالأمسِ اقتربتُ من جدراننا الجديدة ، تلطّخت ملابسي بطلاسةٍ جيرية مزعجة ، تناوبت يد صغيرتي " سارة "  على نفضها لكنَّها لم تفلح .
---------------------------------
بقلم: محمد فيض خالد






اعلان